{وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ} لأن التنوين في قوله إذًا عوض عن جملة، ففيه شرط وجزاء، وتقدير المعنى ولو نزلت عليهم الملائكة ما كانوا منظرين أي ممهلين بتأخير العذاب عنهم وقد بين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} وقوله: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} إلى غير ذلك من الآيات. وقوله: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ} قرأه حفص وحمزة والكسائي: ننزل بنونين، الأولى مضمومة والثانية مفتوحة مع كسر الزاي المشددة، والملائكة بالنصب مفعول به لننزل. وقرأ شعبة: ننزل بنون مضمومة ونون مفتوحة مع تشديد الزاي مفتوحة بالبناء للمفعول، والملائكة بالرفع نائب فاعل ننزل. وقرأ الباقون: تنزل بفتح التاء والنون والزاي المشددة أصله تتنزل فحذفت إحدى التاءين، والملائكة بالرفع فاعل تنزل كقوله: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ}. قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي نزل القرآن العظيم وأنه حافظ له من أن يزاد فيه أو ينقص أو يتغير منه شيء أو يبدل، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} وقوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} إلى قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} وهذا هو الصحيح في معنى هذه الآية أن الضمير في قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} راجع إلى الذكر الذي هو القرآن. وقيل الضمير راجع إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم كقوله: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} والأول هو الحق كما يتبادر من ظاهر السياق. قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً}. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه جعل في السماء بروجًا ذكر هذا أيضًا في مواضع أخر كقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} وقوله تعالى: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ}، والبروج جمع برج.
واختلف العلماء في المراد بالبروج في الآيات المذكورة
فقال بعضهم: البروج الكواكب، وممن روي عنه هذا القول مجاهد وقتادة. وعن أبي صالح: أنها الكواكب العظام، وقيل: هي قصور في السماء عليها الحرس. وممن قال به: عطية، وقيل: هي منازل الشمس والقمر قاله ابن عباس. وأسماء هذه البروج الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت.
قال مقيده ـ عفا الله عنه: أطلق تعالى في سورة النساء البروج على القصور الحصينة في قوله: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} ومرجع الأقوال كلها إلى شيء واحد. لأن أصل البروج في اللغة الظهور ومنه تبرج المرأة بإظهار زينتها فالكواكب ظاهرة والقصور ظاهرة ومنازل القمر والشمس كالقصور بجامع أن الكل محل ينزل فيه، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}. صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أنه زين السماء للناظرين وبين في مواضع أخر أنه زينها بالنجوم، وأنها السماء الدنيا كقوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ}، وقوله: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ}. قوله تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ}. صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أنه حفظ السماء من كل شيطان رجيم وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: {وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} وقوله: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ} وقوله: {فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} وقوله: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} وقوله: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} إلى غير ذلك من الآيات. والاستثناء في هذه الآية الكريمة في قوله: {إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ}. قال بعض العلماء هو استثناء منقطع وجزم به الفخر الرازي أي لكن من استرق السمع أي الخطفة اليسيرة فإنه يتبعه شهاب فيحرقه كقوله تعالى: {وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} وقيل: الاستثناء متصل أي حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئًا من الوحي وغيره إلا من استرق السمع فإنا لم نحفظها من أن تسمع لخير من أخبار السماء سوى الوحي، فأما الوحي فلا تسمع منه شيئًا لقوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} قاله القرطبي، ونظيره {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} فإن استثناء من الواو في قوله تعالى: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى}.
تنبيه
يؤخذ من هذه الآيات التي ذكرنا أن كل ما يتمشدق به أصحاب الأقمار الصناعية من أنهم سيصلون إلى السماء ويبنون على القمر، كله كذب وشقشقة لا طائل تحتها ومن اليقين الذي لا شك فيه أنهم سيقفون عند حدهم ويرجعون خاسئين أذلاء عاجزين {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ} ووجه دلالة الآيات المذكورة على ذلك أن اللسان العربي الذي نزل به القرآن يطلق اسم الشيطان على كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}، وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "الكلب الأسود شيطان" وقول جرير: أيام يدعونني الشيطان من غزلي وكن يهوينني إذ كنت شيطانا
ولا شك أن أصحاب الأقمار الصناعية يدخلون في اسم الشياطين دخولًا أوليًا لعتوهم وتمردهم. وإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى صرح بحفظ السماء من كل شيطان كائنًا من كان في عدد آيات من كتابه كقوله هنا: {وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} وقوله:
{أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} إلى غير ذلك من الآيات.
وصرح بأن من أراد استراق السمع أتبعه شهاب راصد له في مواضع أخر كقوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} وقوله: {إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ} وقوله: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} وقال: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} وقال: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} وهو تعجيز دال على عجز البشر عن ذلك عجزًا مطلقًا، وقال: {أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ} فقوله في هذه الآية الكريمة: {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ}، أي فليصعدوا في أسباب السموات التي توصل إليها. وصيغة الأمر في قوله: {فَلْيَرْتَقُوا} للتعجيز وإيرادها للتعجيز دليل على عجز البشر عن ذلك عجزًا مطلقًا. وقوله جل وعلا بعد ذلك التعجيز: {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ} يفهم منه أنه لو تنطع جند من الأحزاب للارتقاء في أسباب السماء أنه يرجع مهزومًا صاغرًا داخرًا ذليلًا، ومما يدل على أن الآية الكريمة يشار فيها إلى شيء ما كان يظنه الناس وقت نزولها إبهامه جل وعلا لذلك الجند بلفظة ما في قوله: {فِى مَا} وإشارته إلى مكان ذلك الجند أو مكان انهزامه إشارة البعيد في قوله: {هُنَالِكَ} ولم يتقدم في الآية ما يظهر رجوع الإشارة إليه إلا الارتقاء في أسباب السموات.
فالآية الكريمة يفهم منها ما ذكرنا، ومعلوم أنها لم يفسرها بذلك أحد من العلماء، بل عبارات المفسرين تدور على أن الجند المذكور الكفار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم سوف يهزمهم، وأن ذلك تحقق يوم بدر أو يوم فتح مكة، ولكن كتاب الله لا تزال تظهر غرائبه وعجائبه متجددة على مر الليالي والأيام، ففي كل حين تفهم منه أشياء لم تكن مفهومة من قبل، ويدل لذلك حديث أبي جحيفة الثابت في الصحيح أنه لما سأل عليًا رضي الله عنه هل خصهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ قال له علي رضي الله عنه: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلًا في كتاب الله وما في الصحيفة الحديث فقوله رضي الله عنه: إلا فهمًا يعطيه الله رجلًا في كتاب الله يدل على أن فهم كتاب الله تتجدد به العلوم والمعارف التي لم تكن عند عامة الناس، ولا مانع من حمل الآية على ما حملها عليه المفسرون.
وما ذكرنا أيضًا أنه يفهم منها لما تقرر عند العلماء من أن الآية إن كانت تحتمل معاني كلها صحيحة تعين حملها على الجميع كما حققه بأدلته الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية رحمه الله في رسالته في علوم القرآن.
وصرح تعالى بأن القمر في السبع الطباق في قوله: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} فعلم من الآيات أن القمر في السبع الطباق، وأن الله حفظها من كل شيطان رجيم، فلم يبق شك ولا لبس في أن الشياطين أصحاب الأقمار الصناعية سيرجعون داخرين صاغرين عاجزين عن الوصول إلى القمر والوصول إلى السماء، ولم يبق لبس في أن السماء التي فيها القمر ليس يراد بها مطلق ما علاك، وإن كان لفظ السماء قد يطلق لغة على كل ما علاك، كسقف البيت، ومنه قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء}. وقد قال الشاعر: وقد يسمى سماء كل مرتفع وإنما الفضل حيث الشمس والقمر
لتصريحه تعالى بأن القمر في السبع الطباق. لأن الضمير في قوله: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ} راجع إلى السبع الطباق وإطلاق المجموع مرادًا بعضه كثير في القرآن وفي كلام العرب.
ومن أصرح أدلته: قراءة حمزة والكسائي {فَإِن قَـاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} من القتل في الفعلين. لأن من قتل بالبناء للمفعول لا يمكن أن يؤمر بعد موته بأن يقتل قاتله، ولكن المراد: فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر، كما هو ظاهر. وقال أبو حيان في البحر المحيط في تفسير قوله تعالى {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً}. وصح كون السموات ظرفًا للقمر. لأنه لا يلزم من الظرف أن يملأه المظروف. تقول: زيد في المدينة، وهو في جزء منها.
واعلم أن لفظ الآية صريح في أن نفس القمر في السبع الطباق. لأن لفظة {جَعَلَ} في الآية هي التي بمعنى صير، وهي تنصب المبتدأ والخبر، والمعبر عنه بالمبتدأ هو المعبر عنه بالخبر بعينه لا شيء آخر، فقولك: جعلت الطين خزفًا، والحديد خاتمًا، لا يخفى فيه أن الطين هو الخزف بعينه، والحديد هو الخاتم، وكذلك قوله: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} فالنور المجعول فيهن هو القمر بعينه، فلا يفهم من الآية بحسب الوضع اللغوي احتمال خروج نفس القمر عن السبع الطباق، وكون المجعول فيها مطلق نوره. لأنه لو أريد ذلك لقيل: وجعل نور القمر فيهن أما قوله: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} فهو صريح في أن النور المجعول فيهن هو عين القمر، ولا يجوز صرف القرآن عن معناه المتبادر بلا دليل يجب الرجوع إليه، وبوضح ذلك أنه تعالى صرح في سورة الفرقان بأن القمر في خصوص السماء ذات البروج بقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} وصرح في سورة الحجر بأن ذات البروج المنصوص على أن القمر فيها هي بعينها المحفوظة من كل شيطان رجيم بقوله: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} وما يزعمه بعض الناس من أنه جل وعلا أشار إلى الاتصال بين أهل السماء والأرض في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} يقال فيه: إن المراد جمعهم يوم القيامة في المحشر، كما أطبق عليه المفسرون. ويدل له قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}.
ويوضح ذلك تسمية يوم القيامة يوم الجمع في قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}. وكثرة الآيات الداله على أن جمع جميع الخلائق كائن يوم القيامة، كقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} وقوله:
{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} وقوله: {اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ} وقوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً} وقوله {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} وقوله {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً}.
مع أن بعض العلماء قال: المراد ما بث من الدواب في الأرض فقط، فيكون من إطلاق المجموع مرادًا بعضه، وهو كثير من القرآن وفي لسان العرب، وبعضهم قال: المراد بدواب السماء الملائكة زاعمًا أن الدبيب يطلق على كل حركة.
قال مقيده ـ عفا الله عنه: ظاهر الآية الكريمة أن الله بث في السماء دواب كما بث في الأرض دواب. ولا شك أن الله قادر على جمع أهل السموات وأهل الأرض وعلى كل شيء، ولكن الآيات القرآنية التي ذكرنا بينت أن المراد بجمعهم حشرهم جميعًا يوم القيامة، وقد أطبق على ذلك المفسرون ولو سلمنا تسليمًا جدليًا أنها تدل على جمعهم في الدنيا فلا يلزم من ذلك بلوغ أهل الأرض إلى أهل السماء بل يجوز عقلًا أن ينحدر من في السماء إلى من في الأرض لأن الهبوط أهون من الصعود وما يزعمه من لا علم عنده بكتاب الله تعالى من أن قوله جل وعلا: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} يشير إلى الوصول إلى السماء بدعوى أن المراد بالسلطان في الآية هو هذا العلم الحادث الذي من نتائجه الصواريخ والأقمار الصناعية. وإذًا فإن الآية قد تكون فيها الدلالة على أنهم ينفذون بذلك العلم من أقطار السموات والأرض مردود من أوجه: الأول: أن معنى الآية الكريمة هو إعلام الله جل وعلا خلقه أنهم لا محيص لهم ولا مفر عن قضائه ونفوذ مشيئته فيهم وذلك عندما تحف بهم صفوف الملائكة يوم القيامة. فكلما فروا إلى جهة وجدوا صفوف الملائكة أمامهم، ويقال لهم في ذلك الوقت {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ} والسلطان: قيل الحجة والبينة، وقيل الملك والسلطنة وكل ذلك معدوم عندهم يوم القيامة فلا نفوذ لهم كما قال تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} وقال: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}.
الوجه الثاني: أن الجن أعطاهم الله القدرة على الطيران والنفوذ في أقطار السموات والأرض وكانوا يسترقون السمع من السماء كما صرح به تعالى في قوله عنهم وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع الآية وإنما منعوا من ذلك حين بعث صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} فالجن كانوا قادرين على بلوغ السماء من غير حاجة إلى صاروخ ولا قمر صناعي فلو كان معنى الآية هو ما يزعمه أولئك الذين لا علم لهم بكتاب الله لم يقل جل وعلا يا معشر الجن لأنهم كانوا ينفذون إلى السماء قبل حدوث السلطان المزعوم.
الوجه الثالث: أن العلم المذكور الذي لا يجاوز صناعة يدوية أهون على الله جل وعلا من أن يطلق عليه اسم السلطان. لأنه لا يجاوز أغراض هذه الحياة الدنيا ولا نظر فيه ألبتة لما بعد الموت. ولأن الدنيا كلها لا تزن عند الله جناح بعوضة.
وقد نص تعالى على كمال حقارتها عنده في قوله جل وعلا: {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} إلى قوله {لِلْمُتَّقِينَ} وعلم هؤلاء الكفار نفي الله عنه اسم العلم الحقيقي وأثبت له أنه علم ظاهر من الحياة الدنيا وذلك في قوله: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} فحذف الكفار في الصناعات اليدوية كحذف بعض الحيوانات في صناعتها بإلهام الله لها ذلك، فالنحل تبني بيت عسلها على صورة شكل مسدس يحار فيه حذاق المهندسين. ولما أرادوا أن يتعلموا منها كيفية ذلك البناء وجعلوها في أجباح زجاج لينظروا إلى كيفية بنائها أبت أن تعلمهم فطلت الزجاج بالعسل قبل البناء كيلا يروا كيفية بنائها، كما اخبرتنا الثقة بذلك.
الوجه الرابع: أنا لو سلمنا تسليمًا جدليًا أن ذلك المعنى المزعوم كذبا هو معنى الآية فإن الله أتبع ذلك بقوله يرسل عليكما شواظ من نار الآية فهو يدل على ذلك التقدير على أنهم لو أرادوا النفوذ في أقطارها حرقهم ذلك الشواظ والنحاس والشواظ اللهب الخالص والنحاس الدخان ومنه قول النابغة: يضيء كضوء سراج السليط لم يجعل الله فيه نحاسا
وكذلك ما يزعمه بعض من لا علم له بمعنى كتاب الله من أن الله أشار إلى اتصال أهل السموات وأهل الأرض بقوله تعالى: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} بصيغة الأمر في لفظة قل على قراءة الجمهور وبصيغة الماضي {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ} في قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم فإن الآية الكريمة لا تدل على ذلك لا بدلالة المطابقة ولا التضمن ولا الالتزام لأن غاية ما تفيده الآية الكريمة أن الله جل وعلا أمر نبيه أن يقول إن ربه يعلم كل ما يقوله أهل السماء وأهل الأرض على قراءة الجمهور وعلى قراءة الأخوين وحفص فمعنى الآية أنه صلى الله عليه وسلم أخبر قائلًا إن ربه جل وعلا يعلم كل ما يقال في السماء والأرض وهذا واضح لا إشكال فيه ولا شك أنه جل وعلا عالم بكل أسرار أهل السماء والأرض وعلانياتهم لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.
وكذلك ما يزعمه من لا علم عنده بمعنى كتاب الله جل وعلا من أنه تعالى أشار إلى أهل الأرض سيصعدون إلى السموات واحدة بعد أخرى بقوله: {لتركبن طبقا عن طبق} زاعمًا أن معنى الآية الكريمة لتركبن أيها الناس طبقًا أي سماء عن طبق أي بعد سماء حتى تصعدوا فوق السموات فهو أيضًا جهل بكتاب الله وحمل له على غير ما يراد به.
اعلم أولًا أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين مشهورتين إحداهما لتركبن بفتح الباء وبها قرأ من السبعة ابن كثير وحمزة والكسائي وعلى هذه القراءة ففي فاعل لتركبن ثلاثة أوجه معروفة عند العلماء الأول وهو أشهرها أن الفاعل ضمير الخطاب الواقع على النَّبي صلى الله عليه وسلم أي لتركبن أنت يا نبيَّ الله طبقًا عن طبق أي بعد طبق أي حالًا بعد حال أي فترتقي في الدرجات درجة بعد درجة والطبق في لغة العرب الحال ومنه قول الأقرع بن حابس التميمي. إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره وساقني طبق منها إلى طبق
وقول الآخر:
كذلك المرء إن ينسأ له أجل يركب على طبق من بعده طبق
أي: حال بعد حال في البيتين وقال ابن مسعود والشعبي ومجاهد وابن عباس في إحدى الروايتين والكلبي وغيرهم لتركبن طبقًا عن طبق أي لتصعدن يا محمد سماء بعد سماء وقد وقع ذلك ليلة الإسراء والثاني أن الفاعل ضمير السماء أي لتركبن هي أي السماء طبقًا بعد طبق أي لتنتقلن السماء من حال إلى حال أي تصير تارة كالدهان وتارة كالمهل وتارة تتشقق بالغمام وتارة تطوى كطي السجل للكتب، والثالث أن الفاعل ضمير يعود إلى الإنسان المذكور في قوله {يا أيها الذين إنك كادح إلى ربك كدحا} أي لتركبن أيها الإنسان حالًا بعد حال من صغر إلى كبر ومن صحة إلى سقم كالعكس ومن غنى إلى فقر كالعكس ومن موت إلى حياة كالعكس ومن هول من أهوال القيامة إلى آخر وهكذا، والقراءة الثانية وبها قرأ من السبعة نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم لتركبن بضم الباء وهو خطاب عام للناس المذكورين في قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ} إلى قوله {وأما من أوتي كتابه وراء ظهره} ومعنى الآية لتركبن أيها الناس حالًا بعد حال فتنتقلون في دار الدنيا من طور إلى طور وفي الآخرة من هول إلى هول فإن قيل يجوز بحسب وضع اللغة العربية التي نزل بها القرآن على قراءة ضم الباء أن يكون المعنى لتركبن أيها الناس طبقًا بعد طبق أي سماء بعد سماء حتى تصعدوا فوق السماء السابعة كما تقدم نظيره في قراءة فتح الباء خطايا للنبي صلى الله عليه وسلم وإذا كان هذا جائزًا في لغة القرآن فما المانع من حمل الآية عليه فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أن ظاهر القرآن يدل على أن المراد بالطبق الحال المنتقل إليها من موت ونحوه وهول القيامة بدليل قوله بعده مرتبًا له عليه بالفاء {فما لهم لاَ يُؤْمِنُونَ} فهو قرينة ظاهرة على أن المراد إذا كانوا ينتقلون من حال إلى حال ومن هول إلى هول فما المانع لهم من أن يؤمنوا ويستعدوا لتلك الشدائد ويؤيده أن العرب تسمي الدواهي بنات طبق كما هو معروف في لغتهم.
الوجه الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم هم المخاطبون الأولون بهذا الخطاب وهم أولى الناس بالدخول فيه بحسب الوضع العربي ولم يركب أحد منهم سماء بعد سماء بإجماع المسلمين فدل ذلك على أن ذلك ليس معنى الآية ولو كان هو معناها لما خرج منه المخاطبون الأولون بلا قرينة على ذلك.
الوجه الثالث: هو ما قدمنا من الآيات القرآنية المصرحة بحفظ السماء وحراستها من كل شيطان رجيم كائنًا من كان، فبهذا يتضح أن الآية الكريمة ليس فيها دليل على صعود أصحاب الأقمار الصناعية فوق السبع الطباق. والواقع المستقبل سيكشف حقيقة تلك الأكاذيب والمزاعم الباطلة، وكذلك ما يزعمه بعض من ليس له علم بمعنى كتاب الله جل وعلا من أن الله تعالى أشار إلى بلوغ أهل الأرض إلى السموات بقوله: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ} فقالوا تسخيره جل وعلا ما في السموات لأهل الأرض دليل على أنهم سيبلغون السموات والآية الكريمة لا تدل على ذلك الذي زعموا أنها تدل عليه لأن القرآن بين في آيات كثيرة كيفية تسخير ما في السماء لأهل الأرض فبين أن تسخير الشمس والقمر لمنافعهم وانتشار الضوء عليهم ولكي يعلموا عدد السنين والحساب كما قال تعالى: {وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} ومنافع الشمس والقمر اللذين سخرهما الله لأهل الأرض لا يحصيها إلا الله كما هو معروف وقال تعالى:
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} إلى غير ذلك من الآيات المبينة لذلك التسخير لأهل الأرض. وكذلك سخر لأهل الأرض النجوم ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر كما قال تعالى: {وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} وقال: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} إلى غير ذلك من الآيات. فهذا هو تسخير ما في السماء لأهل الأرض وخير ما يفسر به القرآن. ومما ويوضح ما ذكرنا أن المخاطبين الأولين بقوله {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وهم الصحابة رضي الله عنهم لم يسخر لهم شيء مما في السموات إلا هذا التسخير الذي ذكرنا الذي بينه القرآن العظيم في آيات كثيرة. فلو كان يراد به التسخير المزعوم عن طريق الصواريخ والأقمار الصناعية لدخل فيه المخاطبون الأولون كما هو ظاهر، وكذلك قوله {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}، فإن معنى مرورهم على ما في السموات من الآيات نظرهم إليها كما بينه تعالى في آيات كثيرة كقوله: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا} وقوله: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} وقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم وفقني الله وإياك أن التلاعب بكتاب الله جل وعلا وتفسيره بغير معناه لمحاولة توفيقه مع آراء كفرة الإفرنج ليس فيه شيء البتة من مصلحة الدنيا ولا الآخرة وإنما فيه فساد الدارين، ونحن إذ نمنع التلاعب بكتاب الله وتفسيره بغير معناه نحض جميع المسلمين على بذل الوسع في تعليم ما ينفعهم من هذه العلوم الدنيوية مع تمسكهم بدينهم، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} كما سترى بسطه إن شاء الله في سورة بني إسرائيل.
فإن قيل. هذه الآيات التي استدللتم بها على حفظ السماء من الشياطين واردة في حفظها من استراق السمع وذلك إنما يكون من شياطين الجن فدل ذلك على اختصاص الآيات المذكورة بشياطين الجن؟ فالجواب: أن الآيات المذكورة تشمل بدلالتها اللغوية شياطين الإنس من الكفار. قال في لسان العرب: والشيطان معروف وكل عات متمرد من الإنس والجن والدواب شيطان. وقال في القاموس والشيطان معروف وكل عات متمرد من إنس أو جن أو دابة اهـ.
ولا شك أن من أشد الكفار تمردًا وعتوًا الذين يحاولون بلوغ السماء فدخولهم في اسم الشيطان لغة لا شك فيه وإذا كان لفظ الشيطان يعم كل متمرد عات فقوله تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} صريح في حفظ السماء من كل متمرد عات كائنًا من كان، وحمل نصوص الوحي على مدلولاتها اللغوية واجب إلا لدليل يدل على تخصيصها أو صرفها عن ظاهرها المتبادر منها كما هو مقرر في الأصول.
وحفظ السماء من الشياطين معناه حراستها منهم، قال الجوهري في صحاحه: حفظت الشيء حفظًا أي حرسته اهـ. وقال صاحب لسان العرب: وحفظت الشيء حفظًا أي حرسته اهـ. وهذا معروف في كلام العرب، فيكون مدلول هذه الآية بدلالة المطابقة {وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} أي وحرسناها أي السماء من كل عات متمرد.
ولا مفهوم مخالفة لقوله {رَّجِيمٍ} وقوله {مارد} لأن مثل ذلك من الصفات الكاشفة فكل شيطان يوصف بأنه رجيم وبأنه مارد وإن كان بعضهم أقوى تمردًا من بعض وما حرسه الله جل وعلا من كل عات متمرد لا شك أنه لا يصل إليه عات متمرد كائنًا من كان {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ} والعلم عند الله تعالى اهـ. قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}. اللواقح لاقح وأصل اللاقح التي قبلت اللقاح فحملت الجنين، ومنه قول ذي الرمة: إذا قلت عاج أو تفتيت أبرقت بمثل الخوافي لاقحًا أو تلقح
وأصل تلقح تتلقح حذفت إحدى التاءين أي توهم أنها لاقح وليس كذلك ووصف الرياح بكونها لواقح لأنها حوامل تحمل المطر كما قال تعالى {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً} أي حملت سحابًا ثقالًا فاللواقح من الإبل حوامل الأجنة واللواقح من الريح حوامل المطر فالجميع يأتي بخير ولذا كانت الناقة التي لا تلد يقال لها عقيم كما أن الريح التي لا خير فيها يقال لها عقيم كما قال تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}، وقال بعض العلماء اللواقح بمعنى الملاقح أي التي تلقح غيرها من السحاب والشجر وعلى هذا ففيه وجهان: أحدهما: أن المراد النسبة فقوله لواقح أي ذوات لقاح كما يقال سائف ورامح أي ذو سيف ورمح ومن هذا قول الشاعر: وغررتني وزعمت أنك لابن في الحي تامر أي ذو لبن وتمر، وعلى هذا فمعنى لواقح أي ذوات لقاح لأنها تلقح السحاب والشجر.
الوجه الثاني: أن لواقح بمعنى ملاقح جمع ملقحة وملقح اسم فاعل ألقحت السحاب والشجر كما يلقح الفحل الأنثى وغاية ما في هذا القول إطلاق لواقح وإرادة ملاقح ونظيره قول ضرار بن نهشل يرثي أخاه يزيد أو غيره: لبيك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح
فإن الرواية تطيح بضم التاء من أطاح الرباعي والمناسب لذلك المطيحات لا الطوائح ولكن الشاعر أطلق الطوائح وأراد المطيحات، كما قيل هنا بإطلاق اللواقح وإرادة الملاقح أي الملقحات باسم الفاعل ومعنى إلقاح الرياح السحاب والشجر أن الله يجعلها لهما كما يجعل الذكر للأنثى فكما أن الأنثى تحمل بسبب ضراب الفحل فكذلك السحاب يمتلىء ماء بسبب مري الرياح له والشجر ينفتق عن أكمامه وأوراقه بسبب إلقاح الريح له. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} أي تلقح السحاب فتدر ماء وتلقح الشجر فتنفتح عن أوراقها وأكمامها وقال السيوطي في الدر المنثور: "وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} قال: يرسل الله الريح فتحمل الماء فتلقح به السحاب فيدر كما تدر اللقحة ثم يمطر". وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يرسل الله الريح فتحمل الماء من السحاب فتمري به السحاب فيدر كما تدر اللقحة. وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}، قال: تلقح الشجرة وتمري السحاب: وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي رجاء رضي الله عنه قال قلت للحسن رضي الله عنه: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} قال: لواقح للشجر، قلت: أو السحاب، قال: وللسحاب تمر به حتى يمطر. وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} قال: تلقح الماء في السحاب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} قال: الريح يبعثها الله على السحاب فتلقحه فيمتلىء ماء. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب السحاب، وابن جرير وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه والديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ريح الجنوب من الجنة" وهي الريح اللواقح التي ذكر الله في كتابه وفيها منافع للناس والشمال من النار تخرج فتمر بالجنة فيصيبها نفخة منها فبردها هذا من ذلك. وأخرج ابن أبي الدنيا عن قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور والجنوب من الجنة وهي الريح اللواقح".
هذا حاصل معنى كلام العلماء في الرياح اللواقح وقد قدمنا قول من قال إن اللواقح هي حوامل المطر وأن ذلك القول يدل له قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً} أي حملتها وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون للشيء أوصاف فيذكر بعضها في موضع فإنا نبين بقية تلك الأوصاف المذكورة في مواضع أخر ومثلنا لذلك بظل أهل الجنة فإنه تعالى وصفه في سورة النساء بأنه ظليل في قوله: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً} وقد وصفه بأوصاف أخر في مواضع أخر وقد بينا صفات ظل أهل الجنة المذكورة في غير ذلك الموضع كقوله: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} وقوله: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} إلى غير ذلك من أوصافه وإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى وصف الرياح في هذه الآية بكونها لواقح وقد بينا معنى ذلك آنفًا ووصفها في مواضع أخر بأوصاف أخر من ذلك وصفه لها بأنها تبشر بالسحاب في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} على قراءة من قرأها بالباء ومن ذلك وصفه لها بإثارة السحاب كقوله: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} وقال صاحب الدر المنثور وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن عبيد بن عمير قال "يبعث الله المثيرة فتقم الأرض قمًا ثم يبعث المبشرة فتثير السحاب فيجعله كسفًا ثم يبعث المؤلفة فتؤلف بينه فيجعله ركامًا ثم يبعث اللواقح فتلقحه فيمطر" وأخرج ابن المنذر عن عبيد بن عمير قال: "الأرواح أربعة ريح تقم وريح تثير تجعله كسفًا وريح تجعله ركامًا وريح تمطر" اهـ.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة المسألة الأولى: أخذ مالك رحمه الله من هذه الآية الكريمة أن لقاح القمح أن يحبب ويسنبل. قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: روى ابن وهب وابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم عن مالك واللفظ لأشهب.
قال مالك: قال الله تعالى {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} فلقاح القمح عندي أن يحبب ويسنبل ولا أدري ما ييبس في أكمامه ولكن يحبب حتى يكون لو يبس لم يكن فسادًا لا خير فيه ولقاح الشجر كلها أن تثمر ثم يسقط منها ما يسقط ويثبت منها ما يثبت وليس ذلك بأن تورد. قال ابن العربي: إنما عول مالك في هذا التفسير على تشبيه لقاح الشجر بلقاح الحمل وأن الولد إذا عقد وخلق ونفخ فيه الروح كان بمنزلة تحبب الثمر وتسنبله لأنه سمي باسم مشترك فيه كل حاملة وعليه جاء الحديث: "نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتد" اهـ من القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه: استنباط الإمام مالك المذكور من هذه الآية، لأن لقاح القمح أن يحبب ويسنبل، واستدلال ابن العربي له بالحديث المذكور ليس بظاهر عندي كل الظهور. * * *
المسألة الثانية: اعلم أن تلقيح الثمار هو إبارها، وهو أن يؤخذ شيء من طلع ذكور النخل فيدخل بين ظهراني طلع الإناث، ومعنى ذلك سائر الثمار طلوع الثمار من التين وغيره حتى تكون الثمرة مرئية منظورًا إليها. والمعتبر عند مالك وأصحابه فيما يذكر من الثمار التذكير، وفيما لا يذكر أن يثبت من نواره ما يثبت ويسقط ما يسقط، وحد ذلك في الزرع ظهوره من الأرض، قاله مالك. وقد روي عنه أن إباره أن يحبب اهـ، قاله القرطبي. وقال أيضًا: لم
يختلف العلماء أن الحائط إذا انشق طلع إناثه فأخر إباره وقد أبر غيره مما حاله مثل حاله أن حكمة حكم ما أبر، فإن أبر بعض الحائط كان ما لم يؤبر تبعًا له، كما أن الحائط إذا بدا صلاح بعضه كان سائر الحائط تبعًا لذلك الصلاح في جواز بيعه اهـ. وسيأتي لهذا إن شاء الله زيادة إيضاح. * * *